|المنتدى الرسمي للنجمة سارة فرح |
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
love soso
|سارونهـ ماسـي|
love soso


انثى ~[ عدد المشاركات [~ : 1006
~[ تاريخ الميلاد [~ : 07/09/1988
~[ تاريخ التسجيل [~ : 24/04/2011
~[ العمر[~ : 35

شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق Empty
مُساهمةموضوع: شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق   شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق I_icon_minitimeالجمعة ديسمبر 16, 2011 10:48 am

اقشعر منه جسدي هذا الموضوع وشكرا لسعد القرش وسنضل في مقدمه الابداع

شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق



بقلم/ سعد القرش

ست ليال كأنها حلم.
دخلتها ليلا، وغادرتها ليلا. كانت كمية الضباب كثيفة، تحول دون أن تكشف التفاصيل عن نفسها. شغلني السؤال والملاحظة، واختلطت المشاهد بالانطباعات، التي توثق بعضها، وانتفى بعضها الآخر.
الطريق إلى بغداد: أسفلت وصور وشعارات والأسرة مؤسسة مقدسة
من أي باب أبدأ قراءة كتاب بغداد، بعد اختلاط فصول كتاب العراق كله، على مدى عقد كامل؟
من الفنادق الجميلة، وبرج صدام الدولي؟ أم من المستشفيات، وأصحاب المهن الصغيرة، والمتسولين في الشوارع؟
كنت مثل غيري، أحمل فكرة عن هذا البلد الشقيق، تقول إنني ذاهب إلى بلد محاصر دوليا، وشعب معتقل داخل حدود دولته، بل داخل نفسه.
ستحب، مثلي، هذا الشعب، وتعجز عن فهمه، ربما تلتمس له العذر، فكل شيء في العراق محفوف بالسياسة، أو المخاطر.. لا فرق.
مجرد الكلام شَرَك، ومن وقع في غواية الكلام، وقع في المحظور أو الحرام. ستتذكر صيحة صلاح جاهين: «اتكلموا». إذا استجيب النداء، بعد الاطمئنان إليك، ستسمع كثيرا عن بلد يضم من الأعراق: العرب والأكراد، ومن المذاهب: الشيعة والسنة والصابئة والإيزيدية. لا يهم الترتيب، فأي صفحة من كتاب بغداد هي الأولى، وبعدها ما بعدها.
الطريق إلى بغداد:
أسفلت وصور وشعارات
قال لي صديق : «نحن كالحمار أو الحصان الذي يجر عربة والسوط يلهب ظهره ».

في بغداد، أحسست بأنني في القاهرة. منحتني المدينة شعورا بأن بيننا معرفة قديمة، فشلت عمان في أن تقدمها إلي. سائق التاكسي في بغداد، يحدثك في كل شيء، ودود، قنوع بما تقدمه إليه، لديه قدرة على أن يبتسم من قلبه. في الأردن لا تحظى بهذه الابتسامة؛ طلب المسئول عن التاكسي في المطار 12 دينارا (18 دولارا)، مقابل أن ينقلني من مطار الملكة عالية إلى السفارة العراقية. وطلب موظف بالمطار دينارا أردنيا نظير مكالمة هاتفية للسفارة. ضحكت موظفة «زميلة»، وقالت له: يا أخي.. يكفي نصف دينار، هذا «ابن السبيل». في بغداد، سألت صاحب شركة «صيرفة» عن قيمة مكالمة هاتفية، فضحك، وقال إنها مجانية، وتستطيع أن تجري ما تشاء من مكالمات من دون مقابل.
حين رأيت الصحفي اليمني مهدي علوان في السفارة، رشحته ليكون صديقا لأسبوع المربد الشعري (15-21 نوفمبر 2000)، ربما لعمر قادم، وقد كان، مصدر هذا الشعور الفوري، أن هذا اليمني يشبهني ويشبه العراقيين، ابن حضارة قديمة، تركت بصماتها على ملامحه. إنها ذاكرة التاريخ والمدن. وحين عدت إلى القاهرة، اكتشفت أنني لم أتناول في عمان ـ أو الأردن حيث الدولة/المدينة ـ حتى شربة ماء، واسترحت لذلك.
تحدثت مع مهدي علوان كأنني قابلته من قبل، ولم أتبادل حوارا مع أردني من دون أن تكون المصاري (الفلوس) طرفا فيه، هناك استثناء وحيد: سائق التاكسي الأردني كان يرد على أسئلتي باقتضاب، إلا أنه أجاب عن سؤال لم أوجهه إليه، وهو يمر بمبنى يحيط به حرس، قال: «هذا منزل السفير الإسرائيلي.. يخافون عليه». وفي بغداد سمعنا ـ وسط عزلة مشددة ـ خبرين اثنين، أحدهما إطلاق النار على دبلوماسي إسرائيلي بعمان، أما الخبر الثاني فعن سحب مصر سفيرها من تل أبيب.
الطريق إلى بغداد يلخص حالة العراق الآن.
قبل مغادرة مطار االقاهرة، أنت محاصر بنظرات شك، لمجرد التوجه إلى بغداد، وعلى الحدود العراقية، في منفذ «القادسية» تستقبلك صورة مكبرة للرئيس العراقي، وأقوال من مبادئ ثورة تموز 1968، تدخل الاستراحة انتظارا لإنهاء الإجراءات، فتطالعك صور أخرى للرئيس، ساعة أو أكثر وتسأل، فتطالب بالانتظار، رغم وجود خطاب تسهيل الدخول، باعتبارك ضيف مهرجان الشعر. أجمل ما في الطريق هو الأسفلت. كان السائق الأردني يسير بسرعة 160 كيلومترا في الساعة، ولا أشعر بحركة السيارة. العراقيون حريصون على الإشارة إلى أن هذا الطريق أنجز وقت الحصار.
فجأة، تقذفك الصحراء إلى مدخل المدينة، بلا حد فاصل، ولا تمهيد لاقتراب العاصمة. منتصف الليل تماما بتوقيت القاهرة، لم أضف إليها ساعة، فقد تعاملت طوال الأسبوع بإيقاع القاهرة. كانت بوابة بغداد. بخط واضح كُتب:
ـ بناها المنصور وأعزها صدام حسين
الشوارع نظيفة وخالية تماما، ومغسولة بالندى. وقف السائق احتراما للضوء الأحمر، رغم خلو الشوارع من أية سيارات في الاتجاه الآخر، أو أحد رجال المرور. دبت اليقظة في الحواس، متجاوزة إرهاق سفر أكثر من عشر ساعات، بما يسمح برؤية لافتة صغيرة، عن يمين الداخل إلى فندق «المنصور»، حيث نقيم، كُتب عليها بخط الرقعة:
ـ العراق صدام وصدام العراق
أمريكا المجنونة: كيف تواجه هذا العمق التاريخي؟

في مدخل الفندق تمثال للمنصور، وإلى يمينك صورة «رسمية» للرئيس، وفي الصباح ستكون، مع عدد من الأدباء في صالة الاستقبال بالفندق، ويبتسم لك النادل، حين تطلب أن يعد لك كوب شاي مصريا، بدلا من «الاستكانة» العراقية، التي يحتسي منها الرئيس شايا. في مواجهتك تماما، صورة كبيرة للرئيس، غير رسمية رغم الزي العسكري.
ليل/داخلي: السيد الرئيس دائما
التاريخ يواجه مؤامرة الجغرافيا
وصلت فجر الخميس، وهذا حرمني حضور حفل الافتتاح، وزيارة النصب التذكاري للجندي المجهول. أقول «حرمني» لأن هذا لم يكن اختيارا. أما الاختيار فهو تعمد رؤية الثقافة في الشارع العراقي، والشعر بعيدا عن مسرح الرشيد المواجه لفندق المنصور. في حياة العراقيين، حتى الأميين منهم، قصائد لم يستطع شاعر أن يكتبها، لكنها كالجمال المخبوء في الصخر، تحتاج لاتزال فنانا أو مثالا يكتشف الشعر في طبقات الصخور أو الحياة.
تكفل بنا علي حبش، شاعر له ديوان لا يتمكن من نشره.. «سنوات بلا سبب»، عنده إجابة عن معظم الأسئلة. في الشوارع لا تجد سيارة جديدة، كلها سيارات انتهى عمرها الافتراضي، وزجاجها مكسور. يقول لك سائق التاكسي ـ وكل السيارات في خدمتك نظير «أجرة» بما فيها السيارات الخاصة، وأصحاب النوع الأخير يرضون بأي مقابل ـ إن الحصار جعل الجميع يستفزون قواهم الكامنة، ويصلحون السيارات القديمة، أو يجرون إصلاحات للمواتير، لتسير في الطرق سيارات كانت مجرد هياكل مهملة. لا أحد يتمكن من تغيير الزجاج المكسور، لأنه غير متاح، كما أنه غال في ظل حالة التضخم غير المسبوقة عالميا.
بحسن نية أو بسوئها، تجري الآن مؤامرة جغرافية ضد العراق، تشارك فيها أمريكا ودول عربية، وأخرى اخترعوا لها اسم «صديقة» أو «جارة»، وأخيرا مثقفون عرب. لكن دولة بثقل العراق يسعفها التاريخ ويحملها، إذا عجزت عن ذلك الجغرافيا.
الدول نوعان: دولة مقيمة، وأخرى عابرة تجتازها مكرها، ولا تحرص على أن تحمل منها ذكرى، أو تشرب فيها كوب ماء، أو يجتازها التاريخ، باعتبارها نتوءا فعله زمن خاص يكفر عنه زمن لاحق، فتصير كأنها لم تكن. أما النوع الأول من الدول فلا يكون فيها الشعب مجرد «سكان» يهاجرون إذا استشعروا خطرا، ويعلنون ـ من منفاهم ـ استعدادهم للدفاع عن «السُكنى» حتى آخر جندي.. أجنبي!
العراقيون ليسوا سكانا، بل شعبا مقيما في دولة مقيمة، ومثل هذا الشعب يستدعي حضارته، وتاريخه يمنحه طاقة هائلة تكون مفاجأة له.. للشعب نفسه. بهذه الطاقة يرفض الهزيمة والاستسلام، ويجتاز أية محنة، ولا تعنيه عشر سنوات تسرق من عمره. هناك دائما بدائل أخرى لا تجعل الحياة مستحيلة. هناك ثقافة الحياة، وإبداعها، وفق قانون يصنعه عشاق الحياة.
ليلة سفر ضيوف «المربد» إلى البصرة، هاتفت عراقيا كان صديقا لأخي، وتقابلنا في مقهى بشارع السعدون. جاءني في موعد يسمح لي باللحاق برحلة البصرة، لكنني اخترت، هذه المرة، أن أعرف جانبا من الحقيقة التي لا يبوح بها المثقفون.
خرجت مع الشاب الذي لا علاقة له بالشعر أو الثقافة المكتوبة بمعناها التقليدي المحدود، لكنه عميق الثقافة بمعناها الأشمل. وفي بيت العائلة أمضيت بضع ساعات، بمثابة مفاتيح لفهم ما جرى ويجري.
في صالة واسعة كانت العائلة تجلس براحتها، كبارا وشبابا وأطفالا. سألوني عن الصديق الذي كان معي في مقهى شارع السعدون. قبل أن أجيب، قالوا: «لا تأمن لمصلاوي (أي مواطن من الموصل)، هو كالمنوفي عندكم، واختصارا لا تأمن لأحد خارج هذا الباب».
قلت لهم: لم يكن هذا الحذر من سماتكم قبل الغزو!
صححوا لي المصطلح، قالوا: «لا تقل: الغزو. قل: الاستعادة». وسألني أخوه عن القنوات الفضائية، والأطباق اللاقطة، فقلت إن كل شيء موجود في مصر. سألني باستنكار: «وتشاهدون المناظر المخلة بالآداب؟». أوضحت أننا لا نعاني مجاعة جنسية، وفي كل مكان توجد أشرطة فيديو، وقنوات خاصة، لكن أحدا لا يتفرغ لمشاهدتها. ثم إن المشاهدة اختيار، لكنكم كالفقراء في مجاعة يتصورون الأغنياء متفرغين فقط لالتهام الحلوى! في حين أنهم ربما لا يقربونها. قال أحدهم: «ممنوع عندنا الدش والحمد لله، ولدينا ثلاث قنوات محلية».
الإعلام المحلي بطبيعة الحال موجه، وتكفلت عشر سنوات من«الإرشاد» في تشويه الصور الذهنية عن شعوب أخرى، ومواقف وأحداث. قال أحدهم:
ـ لماذا تكرهون الشيعة؟
ـ كذب.
ـ لكن الحكومة المصرية قبضت على شيعة مصريين وحاكمتهم.
سألتهم: أنتم شيعة؟ قالوا: نعم. قلت إن المصري لا يعنيه مذهب ولا دين الذي يتعامل معه، ولي أصدقاء مصريون عاشوا بينكم بضع سنوات، ولم يشغلهم أنكم شيعة، ولي أصدقاء في مصر لم أكتشف أنهم مسيحيون إلا بعد سنوات، وبالمصادفة. ثم إن المصريين روحهم شيعية، وإن كانوا سنة مذهبا، فهم أكثر حبا لآل البيت. وحكاية القبض على شيعة مصريين ملتبسة؛ فإمامهم خطيب مسجد كان يتناول الصحابة بأسلوب غير لائق. ولم يُحاكم أي منهم، وبعض الصحف المصرية أطلقت عليهم «تنظيم»، لكن هامش الحرية سمح بنشر مقالات ترد على من أطلق بشطط مصطلح «تنظيم» على الشيعة، وانتهى الأمر.
كانوا يتحدثون بلسان الحكومة، وبين جملة وأخرى تسمع كلمتي «السيد الرئيس»، ومن باب العشم كانوا عاتبين على مشاركة مصر في الحرب على العراق (1991). قال أحدهم: «إن جنديا إنجليزيا أسر عراقيا، وعامله معاملة الأسرى، أطعمه وسقاه، ثم سلمه مع أسير عراقي آخر، إلى جندي سعودي، مسلم. هذا الأخير لم يتردد في قتلهما معا، وأسرع يبشر زملاءه بأنه ضمن دخول الجنة، لأنه قتل اثنين من الشيعة أعداء الله!».
قال أخوه: «للأسف، شارك في المعركة جنود مصريون، ولدوا حين كان آباؤهم يعملون هنا في العراق».
حين تكون الكارثة بحجم وطن، والحصار خارجيا وداخليا ونفسيا، لا تكون هناك مساحة للنميمة.
يتحدثون بيقين صاحب الحق. ولأنني سمعت نصيحة صديق مصري، في اليوم الأول، ألا أناقش عراقيا في ثوابته السياسية، فقد علقت على الجملة الأخيرة، مشيرا إلى أن بمعظم القرى المصرية شارعا أو حيا يطلق عليه الأهالي اسم «صدام»، فقالوا ضاحكين:
ـ وهل نطالب به؟
ـ في حالة الغزو هناك قوات التحالف.
نهار/خارجي:
كهرمانة و40 حرامي
هو نفسه الشخص الذي كان يتحدث أمس بحماسة عن النظام وقضاياه، قابلته في سيارته الخاصة. وحدنا في جولة بالشوارع، مررنا على مبنى جميل، قال إنه من بقايا منح يوجوسلافيا، أيام المرحوم تيتو، وضحك.
كان أبوه وأقاربه يعملون أجراء، واشتروا حريتهم بقطعة أرض، في الخمسينيات.
قلت: عندنا عاد الإقطاع، أشد شراسة.
قال: ونحن عدنا إلى العبودية لا الإقطاع.
أشار إلى تمثال كهرمانة، فتذكرت قصص ألف ليلة وليلة. كان قد اطمأن إلى ففتح قلبه، بعيدا عن إخوته. فسر لي سر انفراد الملك فيصل بتمثال في أحد ميادين بغداد، مزاحما بذلك تماثيل الرئيس:
ـ «صفقة مع الملك حسين، حين شد أجزاء البندقية، متضامنا مع العراق في حربه مع إيران. خسرنا في تلك الحرب ملايين الشباب، ونحن الآن تحت الطلب في أي وقت، شبابا وشيوخا، فمتى تنتهي حالة الحرب؟».
قال، وسمعت منه كلاما كثيرا، كأنه يريد أن يغسل روحه السجينة. ثم انتقل إلى الشعر:
ـ «الجواهري هو متنبي هذا العصر، ليس كمثله شاعر».
ردد أبياتا جميلة من شعر معروف عبد الغني الرصافي، وذكر اسم عبد الرزاق عبد الواحد. قلت:
ـ وحميد سعيد؟
ابتسم، وهز رأسه.
كل شيء مجيش:
إنها الحرب يا سيدي
منذ أن تدخل السفارة العراقية بعمان، أنت في قبضة حالة حرب؛ تسحب نسخة من صحيفة «القادسية»، فيطالعك شعار لجندي يرفع العلم بيسراه، وباليمنى يمسك البندقية. يعلو اسم الصحيفة شعار آخر: «القلم والبندقية فوهة واحدة» بتوقيع «الرئيس القائد صدام حسين». وحين تدخل مسرح الرشيد، سيكون الواقف يقرأ شعرا، محاصرا بين صورة في إطار كبير وجميل للسيد الرئيس إلى يمينه، وإلى اليسار إحدى مقولاته: «الأمة التي ليس فيها فنانون كبار وشعراء كبار ليس فيها سياسيون كبار» بتوقيع «الرئيس القائد صدام حسين».
إذا دارت عجلة الحرب، الحقيقية أو المجازية، فكل شيء يجب أن يجيش، ويصبح ترسا في آلتها الجبارة، المستعدة لسحق من يعترض أو يبدي الدهشة. كانت دهشتنا مدهشة للبعض، وتذكرت نكتة قديمة، عن فهم مواطنين أحدهما روسي والآخر أمريكي لمصطلح الحرية أو الديمقراطية. النكنة عمرها يزيد على خمسة عشر عاما، وهو عمر معظم النكات العراقية المتداولة الآن بلا تجديد! بسبب الحصار الذاتي وعدم الاتصال الحر بالعالم. قال المواطن الأمريكي إنني حر في أن أنادي بأعلى صوتي، أمام البيت الأبيض، متهما ريجان رئيس الدولة بأنه «حمار»، وقال الروسي إنه أيضا حر في أن يقف أمام الكرملين، وينادي بأعلى صوته، متهما ريجان بأنه «غبي وحمار».
لم يكن غريبا أن يفتتح طارق عزيز نائب رئيس الوزراء مهرجان المربد الشعري السادس عشر، ولم يكن غريبا أن يتحدث، بزيه العسكري، أمام شعراء ونقاد يتقدمهم في الصف الأول قادة عسكريون، عن مصطلح «الشعر السياسي»:
«يمكنني أن أقول الآن إن أعذب الشعر أصدقه.. لأن صور الملاحم العربية في العراق وفي فلسطين المليئة بالبطولة والعنفوان لا تحتاج إلى أي مبالغة أو تزيين عندما يصفها الشاعر».
لم يكذب بعض الشعراء خبرا، وزايدوا على هذا البيان، وكرسوا مقولة يرددها بعض أدباء العراق، وهي أن الطريق إلى القدس لابد أن يبدأ من بغداد أو يمر بها. ودارت معظم القصائد عن «أم المعارك» وأمجاد العراق، وصموده، ورئيسه، ومحمد الدرة والانتفاضة:
ـ قصيدة الشاعر الفلسطيني محمد القيسي حملت عنوانا عراقيا «عند باب المعظم».
ـ الشاعر الأردني إبراهيم الخطيب ألقى قصيدة عنوانها «درة في مهب الريح»:
العراقي قبل دجلة صب
وله في هواك ألف دليل
حينما ذهبت أسود الليالي
مطفآت.. كان العراق بديل
ـ من سوريا أنشد أبو فراس:
هبوا إلى المسجد الأقصى وموعدكم
أم المعارك فيها الدرس والعبر
بعد يومين فقط، ستكون جزءا من هذا الجو العام المشحون.. الصحف لا يزيد عدد صفحاتها على ثمان، تخلو من الألوان، متواضعة الإخراج. المادة مكتوبة عن الحصار، وجرائم أمريكا، ونقص الأدوية، وانتشار السرطان، والنفط مقابل الغذاء، وكذب ادعاءات فرق التفتيش.. الخ. أما برامج التلفزيون فغير منشورة بالصحف، كما أنها دعائية، ذات نبرة خطابية، تعبوية لشحن مشاهد مشحون أصلا، وقابل للانفجار. معظم الأفلام المعروضة أمريكية، تختلط فيها الحركة بالميلودراما.. مشاهد عنيفة دموية، تبدأ بمطاردات وحرائق، وتنتهي بكوارث. كأنك وليمة للكوابيس، وعليك أن تفر منها. من بين بضعة أفلام، استطعت أن أميز وجه الممثل الأمريكي الأسود العجوز مورجان فريمان، وحده استأثر بفيلمين.
أنت محاصر بين صحف تمثل السلطة (تحرص الصحف على إبراز موقعها على الإنترنت وبريدها الإلكتروني)، وقنوات تلفزيونية تشحنك، فإلى أين المفر؟
قال لي علي حبش إن طفلته الصغيرة أمسكت عصفورا، وفصلت رأسه ببساطة، وخضبت شفتيها بدمه.. هي التي لا تعرف النطق إلا بصعوبة، قائلة: بابا.. روج!
لم تنجح تجربة برنامج «الكاميرا الخفية»، لعدم احتمال فريق العمل عنف الناس، الضيوف. البرنامج نفسه، كما قيل، فشل في الأردن لبلادة الناس، الذين لا يبدون أي انفعال.
في ظروف كهذه، عليك ألا تفكر، أن تلهث دائما، وتستشعر خطرا، أو تشارك في إنجاز.
كان يوم الاثنين 20/11/2000 مشهودا، وإليك عناوين إحدى الصحف عن «يوم القدس»:
«لبيك يا فلسطين.. لبيك يا قدس»
«القائد العظيم صدام حسين يرعى استعراض يوم القدس الكبير»
«رصاصات الحق يطلقها القائد المفدى من بندقيته معلنة الجهاد لتحرير فلسطين»
«على بركة الله رعى السيد الرئيس القائد المجاهد المنصور بالله صدام حسين استعراض يوم القدس الكبير للمتطوعين والمتطوعات من جماهير محافظة بغداد وهم من النخبة من بين ستة ملايين و758 ألفا و114 متطوعا ومتطوعة لبوا نداء القائد للجهاد من أجل تحرير فلسطين».
عصر ذلك اليوم، علمنا أن كثيرا من الشعراء، قد أصبحوا جنودا متطوعين لبوا نداء صدام حسين لتحرير فلسطين، وتم «شحنهم» جسديا إلى ساحة العرض، ليشحنوا معنويا!
وكتبت نشرة مهرجان المربد:
«أمام القائد العظيم صدام حسين:
كردوس قتالي للأدباء العرب في استعراض يوم القدس.. وقد نظموه بناء على طلب معظم أعضاء الوفود العربية التي حضرت إلى ساحة الاحتفالات لمشاهدة هذا الاستعراض الجماهيري».
التمرد:
حصان يعشق الحياة ولا يعرف متى يستريح
للحصار فوائد، وإن قال لي أصدقاء استراحوا لنظرات عيني إنه «مسألة إعلامية» تفيد النظام. للأزمة محاسنها، فهي تؤجل انفجارا ينتج عن تراكمات ضغوط اقتصادية ونفسية تنتظر ثغرة لتتنفس الحرية، وقد تجمعت الطاقات الكامنة، وأصبحت العربة العراقية على المنحدر تماما، بما يدفع الذاكرة لاستعادة الحالة المصرية بعد يونيو 1967، حين تم الاعتراف بالخطأ، وأعلن عبد الناصر أنه مستعد للتنازل عن السلطة والانضمام إلى الجماهير.
في تلك الفترة كان الإعلام المصري يعيد النظر في ثوابته، ويتحرر من النبرة الخطابية القديمة، ويعيد الجيش تنظيم نفسه، ولم يمنع توجيه موارد الدولة للمجهود الحربي دوران عجلة السينما، وهكذا أنتج في ثلاث سنوات عدد من أهم روائع السينما المصرية: «المومياء» لشادي عبد السلام، و«البوسطجي» و«شيء من الخوف» لحسين كمال، و«الزوجة الثانية» لصلاح أبو سيف، و«ميرامار» و«غروب وشروق» لكمال الشيخ، و«الأرض» ليوسف شاهين، علاوة على عشرات الأفلام الخفيفة التي تكفلت بتخفيف الأعباء النفسية، وجعلت الشعب يشعر بأنه يضحك ويتزوج ويمارس فعل الحياة ليعيش.
في العراق، حدث شيء مهم في بداية الحصار، لم ينتبه له «مسئول»، هو أن الناس كانوا، كما قال لي مصريون عاصروا بدايات الأزمة، يأكلون أضعاف كميات الطعام. إحساس عام بأنهم مقبلون على مجاعة، جعلهم كمن «يأكل آخر زاده»، على رأي المثل المصري. حالة نفسية من عدم الإحساس بالشبع، تصيب أي مجموعة بشرية تخشى نفاد الطعام في أية لحظة. وقد فقد العراق بهذه الطريقة كميات كبيرة من الغذاء، كان يمكن توفيرها، لو انتبهوا لدور الفن كبديل ساحر، يغني عن دعاية مجانية لا يلبث شعب ذكي أن يتشبع بها بسرعة.
قال لي الصديق، ونحن نسير بمفردنا في شوارع بغداد، ما لم يجرؤ على البوح به وسط أسرته: «نحن كالحمار أو الحصان الذي يجر عربة، السوط يلهب ظهره، وعليه أن يسير، ولا يعرف متى يتوقف أو يستريح، كما أنه لا يستطيع أن يرى ما حوله بسبب الحاجزين الأيمن والأيسر في السرج».
إلا أنهم، برغم كل ذلك، يتحايلون على الضغوط بالصمت، ويسخرون من العالم الخارجي، الظالم أو المتواطئ، بممارسة فن الحياة.
الصديق الذي لا علاقة له بالشعر، والذي نهاني ـ وسط أسرته ـ عن وصف ما حدث يوم 2/8/1990 بأنه غزو، هو نفسه الذي وصف نفسه بأنه فرد في قطيع يجر عربات، وهو نفسه الذي كان يفخر بالفن العراقي في تصميم القباب والمآذن والقصور، وأقسم أن الديكور وفنون الأرابيسك في مدخل أي قصر عراقي حديث، تتفوق على ما تضمه قصور مصر كلها. لم ينس أن يؤكد لي أن كل هذا الإنجاز «الفني» والمعماري إبداع عراقي خالص.
من شرفة الغرفة بالفندق، على نهر دجلة، ترى بغداد حديقة، كأنها عروس ذات مليون نخلة. بين النخيل الذي يلامس السماء بكبرياء، نبتت بيوت، وبشر، ونما جيل على ثقافة المرارة وإعلامها. يعلم الله وحده ماذا سيفعل هذا الجيل بالعراق بعد ربع قرن، أو كيف «يتصرف» العراق مع هذا الجيل. سيجد هذا الجيل كل شيء قد عاد إلى ما كان قبل قصف 34 دولة للعراق (1991) بوحشية غير مسبوقة. لكن إرادة الشعب استطاعت استدعاء التاريخ، لإعادة بناء الجسور، والمنازل، والمنشآت الحكومية، وتجميل الميادين والشوارع، وأخيرا برج صدام الدولي، أعلى مبنى في بغداد.
كنت مع سامح الأسواني وفارس خضر وياسر الزيات وسمير سعدي ومهدي علوان وعلي حبش والشاعر التونسي محجوب العياري في مصعد البرج، وسألنا موظف الأمن عن الفرق بين أحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري. أجاب بعضنا أن المقارنة تظلم كليهما، فأعفانا من الحرج قائلا إن الجواهري لا يقل عن المتنبي.
في الشارع تجد البائع يردد الشعر، والحارس العجوز لملجأ/متحف العامرية ـ ونحن في انتظار مديرته السيدة انتصار أحمد السامرائي ـ يسلينا بالشعر. الشعر حياة شعب يصر على الحياة.
فوق البرج زحام شديد، أطفال دون العاشرة بزي المدرسة، وفتيان وفتيات دون العشرين، تقفز من عيونهم نشوة بكر تليق بالحب الأول، يتبادلون حوارات لا يسمعها غيرهم، على خلفية من أغان تبثها الإذاعة المحلية، لعدد من المطربين المصريين، من أم كلثوم إلى شيماء الشايب بنت 14 التي لم أسمعها من قبل، وكانت تغني «قصة قصيرة» عنوانها «أختي الأكبر مني» عن طفلة في سنها تلاحظ تغيرات مدهشة على أختها المراهقة: «ومسيري أحب وأغني، وأفرح زيها وأتحير».
الفرح بالحياة ليس مجرد كلمات رومانسية، لكنه نهم طبيعي، مثل الإقبال على التهام أضعاف من كميات الأطعمة. هكذا تحدوا العالم بمزيد من الرغبة في الحياة، ووسط نوبات الإظلام، التي كانت تستمر حوالي عشرين ساعة يوميا، أضيئت شموع، وأقيمت أعراس، واجتمع أحبة، بعد قصص حب خارج «مقرر» الحصار الدولي.
للتقاليد العراقية شبه القبلية الفضل في تماسك بنية المجتمع في العقد الماضي (تسعينيات القرن العشرين)، هي تقاليد تختلف عن تقاليد الأسرة المصرية التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية المزمنة. في مصر «تتفسخ» الأسرة وتنقسم باستقلال كل ابن عن أبيه، وقد يمر عام من دون لقاء لبعد المسافات.
في بغداد تظل الأسرة مؤسسة مقدسة.
في فندق المنصور، كان مشهد الأعراس مألوفا، كل ليلة تقريبا هناك «زفة»، ظننت هذا متعمدا بمناسبة ضيوف المربد. سألت باحثا شابا في التراث الشعبي العراقي، فأوضح لي أن قضاء أول ثلاث ليال من الزواج بالفندق ليس نوعا من البذخ، ولكن ظروفا اجتماعية فرضت ذلك؛ فنظرا لعدم استقلال الشاب ببيت أو شقة «مثلكم في مصر»، «يدخل» العروسان في إحدى حجرات منزل الأسرة، وهذا ثقيل نفسيا، والفندق يحقق الاستقلال النفسي والمزاجي في الأيام الأولى للزواج، تمهيدا لعودة الشاب وزوجته إلى بيت والده الذي لا يسمح باستقلال أحد أبنائه عنه، حرصا على وحدة الأسرة، مجرد التفكير في إقامة بيت مستقل أزمة أسرية، تصل إلى حجم الكارثة إذا كان هذا الابن هو الأكبر.. البديل القادم لرب الأسرة.
أغرب تقاليد ليلة الزفاف عدم مشاركة أهل العروس في الحفل، بل «يسلمونها» إلى العريس الذي يعود بها، ليحتفل أهله بهما معا. قلت للباحث:
ـ هذا رعب للعروس، إنه قنص وليس زواجا.
قال إن بعض الأسر أصبحت تتحرر من هذا التقليد، وتسمح لأهل العروس بالمشاركة في «الزفة».
حذار:
كل الحوارات «تحت الأرض»
لعلك شاهدت فيلم «تحت الأرض» للمخرج البوسني أمير كوستوريتسا. إنه أبرع إبداع سينمائي لفكرة ذهنية. تبدأ الأحداث أثناء الحرب العالمية، كارثة حقيقية، وتنتهي وقد انقسم الاتحاد اليوجوسلافي، وانشقت الأرض لعزل هؤلاء «المغيبين» عن الحياة، بعد أن استطاع فرد واحد أن يسيطر على خيالهم، ويوهمهم بشبح كارثة، توجب بقاءهم «تحت الأرض» نصف قرن، مستخدما قدرته على الاتصال بالعالم، ونقله الأخبار من أعلى سلطة:
ـ «الرفيق تيتو يقول لكم كذا وكذا!»
في العراق يقتاتون ميلودراما المرض والغذاء وكل توابع الحصار. ميلودراما لأنها موجهة لجمهور يعانيها وحده، ويتحملها في صمت، ولا يحتاج إلى مزيد من العزاء. هذا الجمهور مغيب تماما عن العالم من حوله. قال لي مواطن عراقي إن لجان التفتيش لا تترك مكانا بلا تفتيش حتى الكنائس، وإنها أصرت على تغيير المقرر الدراسي لمادة الفيزياء، وحذفت كل ما يتعلق بالتفاعل الذري، تجنبا لخروج عالم ذرة عراقي.
في مثل هذه الحالة من الرغبة في السيطرة، لا يتم نشر إلا ما يخدم سياسة قائمة، ويسهل «قيادة» الشعب معنويا، وتوجيه مزاجه ضد شخص أو دولة، أو مع أي منهما، كثغرة وحيدة للتنفيس عن ضغوط متعددة ومعقدة.
يكفي أن تعلم أن حدثا وقع على أرض عراقية قد شغل مثقفين مصريين وسوريين وأردنيين وعراقيين في المنفى، عبر الصحف والإنترنت، لا يدري المثقف العراقي عنه شيئا، هو الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد محمد مهدي الجواهري، فخر العراقيين المعاصرين (22/29 أكتوبر تشرين الأول 2000) بكردستان. وقد أثير في الصحف العامة والمتخصصة في مصر وغيرها، ولا بد أن روح الجواهري قد تعذبت، كما تعذب في حياته، بعد أن تفرق دمه بين قبائل كردستان وأرض العراق، وكان مناسبة لتبادل الاتهامات بالخيانة، والتشكيك في الوطنية. التمثالان اللذان رفع عنهما الستار في الاحتفال يتجاهلان كلمة «العراق»، بعد كتابة «كوردستان» (كذا). وقد علق سليم مطر، الكاتب العراقي المقيم بسويسرا، على ما جرى مؤكدا أن المهرجان لم يكن أبدا بغاية ثقافية ولا وطنية عراقية، بل من أجل غايات سياسية كردية: «خارطة كردستان الكبرى المزعومة لا تختلف كثيرا عن حلم صهيون: من النيل إلى الفرات، فهي بالنسبة للقوميين الكرديين من الخليج إلى البحر»، وهناك محاولات لتحريف التاريخ بهدف تكريده! (أخبار الأدب 24/12/2000).
المثقف العراقي بالداخل مغيب تماما عن هذا الحوار، لأنه «تحت الأرض»، مشغول، أو يراد له أن يظل مشغولا بأموره الصغيرة.. توفير الطعام لأبنائه، والعمل أكثر عدد من الساعات يوميا، في ظروف لا ترحم.
من الأردن يصل نوعان من الثقافة: الأولى ثقافة المثقفين، عدد محدود جدا من الكتب الحديثة الصادرة في مصر أو الشام، تجد بعضها في «سوق المتنبي» معروضا على الأرصفة، (لا حرج من عرض «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ)، ويتولى أصحاب مكاتب التصوير (يسمونها مكاتب الاستنساخ) تصوير الكتب وتغليفها، لكن أسعارها فوق متناول القارئ والكاتب العراقي.
النوع الثاني: أشرطة الكاسيت الجديدة والأفلام الحديثة. نسخ قليلة تنفد سريعا، لكن أصحاب محلات الكاسيت ينسخون لأي طالب ما يريد من أشرطة حديثة أو قديمة، ولا يوجد قانون يحظر ذلك. في دور السينما تجد الأفلام الأمريكية والمصرية وإن غلب عليها الطابع التجاري. «الحب الأول» و«بلية ودماغه العالية» و«هاللو أمريكا»، وقال لي صديق إنه شاهد «عرق البلح» على اسطوانة مدمجة (سي دي).
نظرية الحصان الذي يرى أمامه فقط، ولا يتوقف تفاديا لسوط مشهر، جاهز دائما، على حد تعبير الصديق العراقي، هي المعادل «الجسدي» لرؤية أمير كوستوريتسا للسيطرة المعنوية على شعب. لكن خطأ صغيرا قد ينزع فتيل قنبلة لا يعلم أحد كيف يمكن السيطرة عليها، في ضوء ذكاء الشعب الذي يرى طبقة جديدة، هي أغنياء الحرب أو أثرياء الحصار.
تعمد صديق أن يصطحبني بسيارته، إلى شارع ذكرني بشارعي عباس العقاد وجامعة الدول العربية، من حيث الاختناق وارتفاع مستوى ما يعرض بالمحال التجارية. اقترحت الخروج من هذا الزحام، فقال:
ـ أريد أن ترى الوجه الآخر لبغداد، وللحصار، ولمحدثي النعمة. هذا شارع «العرصات الهندية»، به أحدث أنواع السيارات كما ترى. هذا الزحام سببه استعراض هؤلاء الشباب ثراءهم، بركوب السيارات من أول الشارع لآخره، والدوران والعودة مرة أخرى. أما عن أسعار ما يعرض بالمحال فهي فوق الاحتمال.
أمريكا المجنونة:
كيف تواجه هذا العمق التاريخي؟
من السفه أن تفكر أمريكا في اغتيال العراق، لأن لهذه البلاد ذاكرة بعمق سبعة آلاف عام (كما يقولون). يستطيع أي جيل أن يستدعيها لينهض مرة أخرى. ليس مصادفة أن تعزف معظم الكتب والمجلات الآن (2000) هذا اللحن. يزخر العراق بعدد هائل من الباحثين في التراث والثقافة الشعبية، من أمثال باسم حمودي الذي صدر له في القاهرة كتاب «تغريبة عامر الخفاجي العراقي»، وكاظم سعد الدين، وله كتاب فريد عن الحياة اليومية في بلاد الرافدين في العصور السحيقة.
إلى جوار هذه الكتب تجد مؤلفات متواضعة الطباعة، لكنها تعنى بإبداعات الجيل الجديد، في معرض للكتاب أقيم بفندق المنصور على هامش المهرجان. من بين هذه الكتب تلفت انتباهك «المؤلفات الكاملة» للرئيس صدام حسين، في 18 جزءا يبلغ الأخير منها 700 صفحة من القطع الكبير (هارد كافر)، تضم الخطب والأحاديث الصحفية حتى عام 1989، وكتب عليها أنها طبعت بتوجيه وزير الإعلام العراقي لطيف نصيف جاسم، وتشكلت لجنة الإعداد من محسن جاسم الموسوي وعبد الحميد العلوجي.
الصواريخ تنسف المباني، وتهدم الجسور، لكنها لا تمس الذاكرة، بل تنعشها، وتثير شهية الشعراء الذين وصفهم شاعر سومري قائلا:
ـ «نحن الشعراء مطرودون من هذا العالم».
الشعراء في بغداد اليوم يحاولون عدم التصادم؛ فإذا كانوا غير مؤيدين فهذا لا يهم، الأهم ألا يكونوا معارضين. جيل يقتات حزنه الشخصي والقومي، ولا يجد وسيلة للتحاور مع تجارب مجايليه خارج العراق، أو حماية نفسه من التآكل الإبداعي الذاتي. يعيشون على ثقافة «الاستنساخ»، بتدوير صور بعض الكتب الصادرة حديثا، التي لا تصل إلى بغداد إلا مصادفة.
أصغر ديوان أصدرته رحاب حسين (9 × 7 سنتيمترات) عنوانه «حفلة تنكرية»، وفي طبعات محدودة تجد دواوين لنجاة عبد الله (لديها كتاب مترجم تتمنى نشره في مصر)، وريم قيس كبة الفائزة بجائزة الشعر الأولى في مسابقة بالشارقة، وسعدي صالح الفائز بعدة جوائز مسرحية عربية. وطبع حاتم حسام الدين نسخا مصورة من مسرحياته ذات الفصل الواحد وينتظر فرصة نشر ديوانه الأول، وقد ساعدني ـ بكرم حاتمي ـ في جمع الكثير من النصوص لكي أنشرها في مصر. ولأطوار السامرائي ديوان لا تجد منه نسخة، ولا تستطيع إعادة طبعه.
أما علي حبش فعنوان ديوانه شديد الدلالة «سنوات بلا سبب»، ولأن تكلفة نشر الديوان لا تقل عن 250 دولارا، وتكفي كما قال لتجهيز أربع بنات للزواج، فهو يوزع قصائده على الأصدقاء، وينشدها.
أحمد آدم جمع قصائد بعنوان «كون في داخلي»، وصنع لها غلافا فأصبحت ديوانا، وهو ما فعله جمال البستاني في مجموعته القصصية «تدجين»، وسعدي صالح في مسرحيتيه «اغتيال الحلم الأخير» و«عطيل.. رجولة مؤجلة».
اغتيال جماعي للملائكة في ملجأ «العامرية»:
القيامة الآن.. طرف من خبر جهنم
في زيارتنا لملجأ/متحف العامرية، قدمت مديرته السيدة انتصار السامرائي شرحا مؤثرا. يقع الملجأ في غربي بغداد، هو واحد من 34 ملجأ فنلندي التصميم (هناك عشرة ملاجئ سويدية)، ويسع 1200 شخص. بعد أن قصفت إسرائيل مفاعل تموز العراقي (1981)، أنشئ هذا الملجأ عام 1984، بهدف حماية من بداخله من أي تسرب إشعاعي، حيث تغلق الأبواب تلقائيا.
يوم قيامة الملائكة (13/2/1991)، كانت بغداد تمر بأسوأ كارثة تلتهم كل هذا العدد من الضحايا، كأنه يوم القيامة تماما، فقد تم إسقاط الصاروخ الأول الحلزوني، بين أربعة أعمدة، قرب فتحة التهوية، فاخترق السقف وسمكه متران من الخرسانة المسلحة المعالجة كيميائيا، وانقطعت الكهرباء، فأغلقت الأبواب تلقائيا، وصار الملجأ زنزانة مظلمة. وأطلق الصاروخ الثاني من النوع الحارق (يبلغ وزن كليهما اثنين من الأطنان)، فاشتعل المكان بمن فيه، وارتفعت الحرارة إلى 400 درجة مئوية، وتفحمت أجساد 408 من الأطفال والأمهات، بعضهم ينتمي إلى مصر وسوريا.
تقول مديرة الملجأ إن الشركة المصممة ارتكبت خيانة علمية ببيع التصميمات لأمريكا التي صنعت الصاروخين في 16 يوما، وادعت في البداية أن الملجأ كان مقرا لعمليات عسكرية، ولأن الجريمة أقسى من الادعاء، فقد صرحت فيما بعد بأنها قصفت الملجأ خطأ. وأي خطأ وقد أطلق الصاروخان وسط أربعة أعمدة، وأي انحراف قليل كان سيقلل من حجم الكارثة؟!
لا وقت للنميمة
حين تكون الكارثة بحجم وطن، والحصار خارجيا وداخليا ونفسيا، لا تكون هناك مساحة للنميمة، ما عدا ما يتناثر أحيانا من فضفضة عن شعراء كبار يحتكرون النشر المجاني لأنفسهم، أو لأصحاب النصيب من الكتاب الصغار «المألوفين»، منهم كاتبة كانت تعمل نادلة، (بالنص كما قيل: Office Boy) في أحد الفنادق، أعجب بها كاتب أو مسئول ثقافي، فعرفها الطريق إلى الأدب، وتبناها، وأصبحت كاتبة!
العراقيون لا يذكرون المصريين إلا بالخير، لكن مصريين ينبشون ذاكرة العراق عن سير مصريين عاشوا سنوات على خيرات العراق، في السبعينيات والثمانينيات، ثم ضنوا عليه بزيارة سنوية على نفقتهم الشخصية، في السنوات العشر الأخيرة (سنوات الحصار). من هؤلاء كاتب جمع من أموال العراق عشرات المئات من الدولارات، أو ما يزيد على المليون، من عمله بالإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات، لكنه لا يعدم المبررات لرفض زيارة العراقيين الآن والتضامن معهم، بادعاء المرض المزمن.
هناك آخرون عاشوا على «حس» امتداح صدام، ووصفه بأنه قائد العروبة المظفر، ولعنوا السادات، ثم انقلبوا على صدام حين رجحت كفة الكويت.
كِتاب المثقفين المصريين في العراق فتنة سوف تصحو يوما.
الرحيل
تغادر بغداد كأنك تغادر جزءا منك، تخاف عليه، ولا تملك أن تفعل شيئا، سوى انتظار ما تجود به خيارات المستقبل.
تصل إلى الحدود الأردنية، فيطالبك موظف صغير، له عيون شرسة بدفع إتاوة، تحت مسمى «شهادة تأمين» لشركة اسمها «الضامنون العرب». لا يقتنع برفضك، أو عدم جدوى هذا التأمين لك كعابر، مثلهم، لن تمكث في بلد عابر.
ما بين هذا الموظف الأردني وحدود العراق مسافة حرة، لا تدري لمن تخضع. تذكرك بفيلم «الحدود» لدريد لحام. تتجاوز بعينيك المسافة، إلى هناك، إلى العراق، حيث النخيل والشعراء والخليج الذي صار لعنة، فتردد مع بدر شاكر السياب:
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى.

ـــــــ
** عدت من العراق كأنني نجوت من هلاك، وتأكد لي أن من الحماقة أن يغامر عاقل بزيارة بلد محكوم بالبعث. ونشرت هذا الفصل في مجلة «سطور» الشهرية بمصر، في فبراير شباط 2001، مصحوبا بقصائد وقصص لكل من: أحمد آدم، معن عبد القادر آل زكريا، أطوار بهجت السامرائي، نجاة عبد الله، علي حبش، ماجد حاكم موجد، فيصل القصيري، جان دارك اسطيفان بطرس، فليحة حسن، يعرب السالم، حاتم حسام الدين. وحرصت على أن يكون النص مصحوبا بصورة فوتوغرافية لصاحبه كلما كانت متاحة. ثم نشرت في أعداد تالية من المجلة نصوصا لكتاب آخرين.
وكما توقعت، لم أدع مرة ثانية إلى العراق، ولم أكن أنتظر دعوة، ولا أريد.
وصلت إليهم المجلة، فأرسلوا إلي يثنون على ما كتبت.
من بين ما أحتفظ به من رسائل خطية، سطور أرسلتها إلي أطوار بهجت السامرائي، التي استشهدت يوم 22 فبراير شباط 2006، مع زميلين لها في قناة (العربية) الفضائية، وهم متوجهون إلى مدينة سامراء، لتغطية تفجير مرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري.
تغادر بغداد كأنك تغادر جزءا منك، تخاف عليه، ولا تملك أن تفعل شيئا، سوى انتظار ما تجود به خيارات المستقبل.

كتبت أطوار في رسالتها إلي: «شكرا على الموضوع الرائع الذي لم يثر إعجابي وحدي بل والكثير من العراقيين الذين يشكرونك مثلما أفعل... مودتي أبدا».
أما الشاعر حاتم حسام الدين الذي توفي أيضا في ظروف لا أعرفها، ولم ير ديوانه «كتاب السدى»، فأرسل أيضا يشكرني على نشر هذا الملف (مقالي عن الرحلة والنصوص المصاحبة له)، ويلومني على نسيان تحذيره لي في بغداد، قائلا إن الكتابة حرمتني توجيه الدعوة إلي في العام التالي: «ضيعت على نفسك وعلينا فرصة اللقاء مجددا... المؤسسات لا تهمها الحقائق إلا بقدر ما تكون الحقائق في خدمتها.. أكتب الآن (ديسمبر كانون الأول 2002) في منطقة قلقة تحوطها الحشود الأمريكية ولجان التفتيش والإمساك بالتراب.. وكان أملي أن أرى من أهتم به، وها أنت ذا تغيب.. سنلتقي، وآمل أن تكون الأرض عربية». لكنه رحل، كما قتل أحمد آدم «على الهوية».. على الراحلين السلام.
ــــــــــ
* فصل من كتاب (سبع سماوات) الفائز بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة، وسوف يصدر ضمن منشورات مركز (المركز العربي للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق ) في افتتاح (مؤتمر الرحالة العرب والمسلمين.. اكتشاف الذات والآخر) الذي تستضيفه الدوحة في ديسمبر القادم.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Zanoba *Zoza‏
|سارونهـ ذهــبي |
Zanoba *Zoza‏


انثى ~[ عدد المشاركات [~ : 661
~[ تاريخ الميلاد [~ : 06/09/1988
~[ تاريخ التسجيل [~ : 12/10/2011
~[ العمر[~ : 35

شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق Empty
مُساهمةموضوع: رد: شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق   شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق I_icon_minitimeالسبت يناير 07, 2012 1:40 pm

جميل التوبيك يارب الكل يستفيد منو
تسلم ايدك ياقمر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هيام السودانية عاشقة سارة
|سارونهـ ذهــبي |
هيام السودانية عاشقة سارة


انثى ~[ عدد المشاركات [~ : 639
~[ تاريخ الميلاد [~ : 19/12/1989
~[ تاريخ التسجيل [~ : 29/10/2011
~[ العمر[~ : 34

شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق Empty
مُساهمةموضوع: رد: شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق   شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق I_icon_minitimeالسبت يناير 21, 2012 1:59 pm

تسلم يمناك ي عسل انقى الامانى تعانق روحك













:*129
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
شعب «تحت الأرض» يتنفس الشعر شرك الكلام عن العراق
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  الصين أجمل البلدان على وجه الأرض
» اخوانا فى العراق
» عاجل : نقل "خليجي 21" من العراق الى البحرين !!
» الكلام ما بيوصف هالجمال ...
»  صور تتكلم اروع من الكلام

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
|المنتدى الرسمي للنجمة سارة فرح | :: الأقســام العــامـة :: ||¬ ،.المنتــدى العـــام و الشامل .، » •-
انتقل الى: